أما الطرفان:
فأولهما: المثبتون للشفاعة في غير موضعها ولغير أهلها، سواء كَانَ ذلك في الشافع أو في المشفوع له، فهَؤُلاءِ غلوا في إثبات الشَّفَاعَةِ، وجعلوها في غير ما أنزل الله تَعَالَى إما أنهم جعلوا من ليس أهلاً في الشَّفَاعَةِ شافعاً، والله لم يجعله شافعاً، أو جعلوه مشفوعاً له، ولم يأذن الله تَعَالَى بأن يُشْفَع له، وغلوا في ذلك حتى آل بهم الأمر إِلَى الشرك الأكبر.
وهَؤُلاءِ: هم المُشْرِكُونَ قديماً وحديثاً، فأما المُشْرِكُونَ في الجاهلية وقبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أخبر الله عنهم في آيات كثيرة من ذلك قوله سبحانه:
((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ))[يونس:18] أي: يعبدون الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع، كما خاطب إمام الموحدين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام قومه بقوله: ((قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)) [الشعراء:72، 73] لا ينفعون ولا يضرون ولكن العلة هي الشَّفَاعَة، ومن ناحية أخرى الوسيلة، ولهذا فموضوع الشَّفَاعَةِ والوسيلة له ارتباطات، فهَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ اتخذوا من غير الله آلهة وعبدوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم من الأصنام الجامدة، أو من الصالحين، أو من الموتى الهالكين الغابرين، وكل ذلك بحجة أن هَؤُلاءِ شفعاؤنا عند الله.
وفي الآية الأخرى ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3] هي أيضاً بهذا المعنى، فإن الذي يقرب إِلَى الله هو الشافع الوسيط المتوسل به الذي يصل الإِنسَان إِلَى مراده وغايته، فهَؤُلاءِ جعلوهم شفعاء عند الله، وهذا شرك في حقيقته، وإن كانت هذه الأصنام لا تخلق وترزق، ولا تستحق العبادة وحدها؛ لكن يقولون: نعبد الله وهو إله واحد وهذه الآلهة تشفع لنا عند الله، وقد كانوا في الجاهلية يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فلا يجعلون هذا الشفيع واسطة فقط يقرب ويشفع عند الله؛ بل مع ذلك يجعلونه مملوكاً لله فقد قالوا: "تملكه، وما ملك" ومع ذلك فهذا بعينه هو الشرك الأكبر.

والشَّفَاعَةُ إذا نظرنا إليها من أصلها اللغوي وجدنا أن الشفع في اللغة هو: ضد الوتر، بمعنى: الاقتران أو الضم فمثلاً (2،4،6،...) هذه الأعداد تسمى الأعداد الشفعية فتقول: شفعت هذا بهذا، ضممت هذا إِلَى هذا، فالواحد وتراً لكن الاثنان شفعاً؛ لأنك ضممت واحد إِلَى واحداً فأصبحت شفعاً.
فالذي يحصل أن الْمُشْرِكِينَ يضمون مع الله تَعَالَى غيره، وذلك: بأن يدعو الله، ويدعو غير الله، ويقول قائلهم: هذا يشفع لي عند الله، فأنا عندما أدعو الله أنا ضعيف، ومذنب، ومقصر، كيف أدعو الله وأتقرب وأتوسل إليه بعملي أنا؟ فماذا أصنع؟! أشفع دعائي بدعاء رجل صالح! أو بدعاء الولي الفلاني، أو النبي الفلاني، أو بالأصنام أياً كانت، فأضم هذا إِلَى عملي، فيصبح الأمر أرجى للقبول عند الله تعالى، وهذا ما يفعله المتعلقون بالأموات والقبوريين في الجاهلية والإسلام.
فهَؤُلاءِ الذين أثبتوا الشَّفَاعَة، وغلوا في إثباتها، جعلوها في غير موضعها لأن هذه الأصنام لا تشفع، لأنها أحجار صماء بكماء،((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28] وقوله: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه))[البقرة:255] فالشَّفَاعَةُ لمن ارتضى ولمن أذن الله تَعَالَى ولمن شهد بالحق وهم يعلمون، لأهل التوحيد والإيمان يشفع الله ما شاء له أن يشفع.